مواضيع المدونة

الجمعة، مايو 18، 2012

في تقرير كون الزيارة قربة وذلك بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس

 بسم الله الرحمن الرحيم 
اللهم صل على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد

قال تقي الدين السبكي في كتابه شفاء السقيم باب في تقرير كون الزيارة قربة وذلك بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس:

[أما الكتاب العزيز] أما الكتاب:
فقوله تعالى: * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله، توابا رحيما) *.
دلت الآية على الحث على المجئ إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستغفار عنده، واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة فهي رتبة له صلى الله عليه وآله وسلم لا تنقطع بموته، تعظيما له.
فإن قلت: المجئ إليه في حال الحياة ليستغفر لهم، وبعد الموت ليس كذلك؟
قلت: دلت الآية على تعليق وجدانهم الله تعالى توابا رحيما بثلاثة أمور:


المجئ، واستغفارهم، واستغفار الرسول.
فأما استغفار الرسول: فإنه حاصل لجميع المؤمنين، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استغفر للمؤمنين والمؤمنات، لقوله تعالى: * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) *.

ولهذا قال عاصم بن سليمان - وهو تابعي - لعبد الله بن سرجس الصحابي رضي الله عنه:
استغفر لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
فقال: نعم، ولك، ثم تلا هذه الآية، رواه مسلم (1).
فقد ثبت أحد الأمور الثلاثة، وهو استغفار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكل مؤمن ومؤمنة، فإذا وجد مجيئهم، واستغفارهم، تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته.
وليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم، بل هي مجملة (2).
والمعنى يقتضي بالنسبة إلى استغفار الرسول أنه سواءا تقدم أم تأخر؟ فإن المقصود إدخالهم لمجيئهم واستغفارهم تحت من يشمله استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وإنما يحتاج إلى المعنى المذكور إذا جعلنا * (واستغفر لهم الرسول) * معطوفا على * (فاستغفروا الله) * أما إن جعلناه معطوفا على * (جاؤوك) * لم يحتج إليه.
هذا كله، إن سلمنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يستغفر بعد الموت، ونحن لا نسلم ذلك، لما سنذكره من حياته صلى الله عليه وآله وسلم واستغفاره لأمته بعد موته.
وإذا أمكن استغفاره، وقد علم كمال رحمته وشفقته على أمته، فيعلم أنه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفرا ربه تعالى.
فقد ثبت على كل تقدير أن الأمور الثلاثة المذكورة في الآية، حاصلة لمن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) صحيح مسلم (٧ / ٨٦) كتاب الفضائل، باب إثبات خاتم النبوة، وفي طبعة (4 / 1823) وانظر الشمائل للترمذي رقم 22.
(2) في الصارم (ص 314): (محتملة) بدل: مجملة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يجئ إليه صلى الله عليه وآله وسلم مستغفرا في حياته وبعد مماته.
والآية وإن وردت في أقوام معينين في حالة الحياة، فتعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت.
ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبوا لمن أتى إلى قبره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلو هذه الآية، ويستغفر الله تعالى.
وحكاية العتبي في ذلك مشهورة، وقد حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب، والمؤرخون، وكلهم استحسنوها، ورأوها من آداب الزائر، وما ينبغي له أن يفعله، وقد ذكرناها في آخر الباب الثالث.


[وأما السنة]

 وأما السنة: فما ذكرناه في الباب الأول والثاني من الأحاديث، وهي أدلة على زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصه، وفي السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (زوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة).
وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني في كتابه (آداب زيارة القبور): ورد الأمر بزيارة القبور من حديث بريدة، وأنس، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي هريرة، وعائشة، وأبي بن كعب، وأبي ذر رضي الله عنهم، انتهى كلام أبي موسى الأصبهاني.
فقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم - سيد القبور - داخل في عموم القبور المأمور بزيارتها.

[وأما الاجماع] (1)

 وأما الاجماع: فقد حكاه القاضي عياض، على ما سبق في الباب الرابع (2).
وأعلم: أن العلماء مجمعون على أنه يستحب للرجال زيارة القبور، بل قال بعض الظاهرية بوجوبها، للحديث المذكور.
وممن حكى إجماع المسلمين على الاستحباب أبو زكريا النووي.
وقد رأيت في (مصنف ابن أبي شيبة) (3) عن الشعبي قال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن زيارة القبور، لزرت قبر بنتي.
وهذا إن صح، يحمل على أن الشعبي لم يبلغه الناسخ، مع أن الشعبي لم يصرح بقول له، ومثل هذا لا يقدح.
وكذلك رأيت فيه: عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون زيارة القبور (4).
وهذا لم يثبت عندنا، ولم يبين إبراهيم الكراهة عمن؟ ولا كيف هي؟ فقد تكون محمولة على نوع من الزيارة مكروهة.

(1) لم يتمكن المتعصب العنيد من دفع الاجماع على مشروعية الزيارة، وقول علماء الإسلام بها، إلا بقوله في الصارم المنكي (ص 330): إن الاجماع المذكور في هذه المسألة غير محقق، وإن كان قول من خالف الجمهور ضعيفا!! وشيخ الإسلام (؟!) لم يذهب إلى هذا القول المخالف لقول الجمهور، وإنما حكاه غيره.
أقول: ومن المعلوم أن مخالفة الضعيف لا يؤثر في الاجماع وتحققه، وإلا كان كل قول واحتمال، ممن هب ودب، مؤثرا في نقض الاجماع، فلم ينعقد إجماع على شئ!!
(2) سبق ص 155.
(3) المصنف لابن أبي شيبة (3 / 226) كتاب الجنائز (9) الباب (146) من كره زيارة القبور ح (11).
(4) المصنف لابن أبي شيبة (الموضع والباب) ح (9).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولم أجد شيئا يمكن أن يتعلق به الخصم غير هذين الأثرين (1)، ومثلهما لا يعارض الأحاديث الصريحة الصحيحة، والسنن المستفيضة المعلومة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
بل لو صح عن الشعبي والنخعي التصريح بالكراهة، لكان ذلك من الأقوال الشاذة التي لا يجوز اتباعها والتعويل عليها، فإنا نقطع ونتحقق من الشريعة بجواز زيارة القبور للرجال، وقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم داخل في هذا العموم.
ولكن مقصودنا إثبات الاستحباب له بخصوصه، للأدلة الخاصة، بخلاف غيره ممن لا يستحب زيارة قبره لخصوصه، بل لعموم زيارة القبور، وبين المعنيين فرق كما لا يخفى.
فزيارته صلى الله عليه وآله وسلم مطلوبة بالعموم والخصوص.
بل أقول: إنه لو ثبت خلاف في زيارة قبر غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يلزم من ذلك إثبات خلاف في زيارته، لأن زيارة القبر تعظيم، وتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم واجب.
وأما غيره فليس كذلك.

(١) لاحظ استدلال ابن تيمية على منع الزيارة بأسخف من هذين، وهو أن مالكا كره أن يقال (زرت قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم) مجموع فتاوى (٢٧ / ٢٦) والصارم (ص ٣٢٨).
وأمثال ذلك من الحكايات التي (ينطبق عليها قوله في موضع آخر:) قد تكون صدقا، وقد تكون كذبا، وبتقدير أن تكون صدقا فإن قائلها غير معصوم ومن يعارض النقل الثابت عن المعصوم (في مشروعية الزيارة) بنقل (من هذه الحكايات) غير ثابت حتى عن غير المعصوم؟
إلا من يكون من الضالين (المنحرفين عن تقديس الرسول وصحابته كالسفلية والوهابية) إخوان الشياطين.
وهذا من أسباب الشرك وتغيير الدين! بحكم ابن تيمية في مجموع فتاواه (27 / 171).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[زيارة النساء للقبور]

 ولهذا المعنى أقول - والله أعلم -: إنه لا فرق في زيارته صلى الله عليه وآله وسلم بين الرجال والنساء لذلك، ولعدم المحذور في خروج النساء إليه.
وأما سائر القبور فمحل الاجماع على استحباب زيارتها للرجال.
وأما النساء ففي زيارتهن أربعة أوجه في مذهبنا:
أشهرها: أنها مكروهة، جزم به الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وابن الصباغ، والجرجاني، ونصر المقدسي، وابن أبي عصرون، وغيرهم.
وقال الرافعي: إن الأكثرين لم يذكروا سواه.
وقال النووي: قطع به الجمهور، وصرح بأنها كراهة تنزيه.
والثاني: أنها لا تجوز، قاله صاحب (المهذب) وصاحب (البيان).
والثالث: لا تستحب ولا تكره، بل تباح، قاله الروياني.
الرابع: إن كانت لتجديد الحزن والبكاء بالتعديد والنوح - على ما جرت به عادتهن - فهو حرام، وعليه يحمل الخبر، وإن كانت للاعتبار بغير تعديد ولا نياحة كره، إلا أن تكون عجوزا لا تشتهى فلا تكره، كحضور الجماعة في المساجد، قاله الشاشي، وفرق بين الرجل والمرأة: بأن الرجل معه من الضبط والقوة بحيث لا يبكي ولا يجزع، بخلاف المرأة.
واحتج المانعون بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله زوارات القبور) رواه الترمذي في حديث أبي هريرة، وقال: حسن صحيح، ورواه ابن ماجة من حديث حسان بن ثابت (1).

(1) سنن الترمذي (2 / 259) ح 1061، باب (61) ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء، وفيه:
عن أبي هريرة: إن رسول الله لعن...) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (4 / 78) وسنن ابن ماجة (1 / 502) ح 1574، باب ما جاء في زيارة القبور، والموجود في المطبوع: عن حسان بن ثابت:
لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوارات القبور، لا ما نقله في المتن من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله...)، وقد روى بعده عن ابن عباس وأبي هريرة مثله. وحديث حسان رواه الحاكم في مستدركه (1 / 374)، والبيهقي في السنن الكبرى (4 / 78)، لكن في كنز العمال (16 / 388) رقم (45038): (لعن الله زوارات القبور) حم ت ه‍ ك. عن حسان: وحم ت ه‍ عن أبي هريرة فليلاحظ، وفي مصنف ابن أبي شيبة (3 / 226) كتاب (9) باب (146) ج (10) وفيه: زائرات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واحتج المجوزون بأحاديث:
منها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها) (1).
وأجاب المانعون بأن هذا الخطاب للذكور.
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم للمرأة التي رآها عند قبر تبكي: (اتقي الله واصبري) ولم ينهها عن الزيارة.
وهو استدلال صحيح.
ومنها: قوله عائشة: كيف أقول؟ يا رسول الله!
قال: (قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين).
وسنذكره في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للبقيع.
وهو استدلال صحيح.
[الاستدلال على استحباب زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقياس] وقد خرجنا عن المقصود، فنرجع إلى غرضنا: وهو الاستدلال على أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قربة.
ومما يدل على ذلك القياس، وذلك على زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم البقيع وشهداء

(1) المصنف لابن أبي شيبة (3 / 223) كتاب (9) الجنائز، الباب (145) من رخص في زيارة القبور ح (1).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحد - وسنبين أن ذلك غير خاص به صلى الله عليه وآله وسلم بل مستحب لغيره - وإذا استحب زيارة قبر غيره صلى الله عليه وآله وسلم فقبره أولى، لما له من الحق ووجوب التعظيم.
فإن قلت: الفرق: أن غيره يزار للاستغفار له، لاحتياجه إلى ذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زيارته أهل البقيع، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مستغن عن ذلك؟
قلت: زيارته صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي لتعظيمه، والتبرك به، ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه، كما أنا مأمورون بالصلاة عليه والتسليم، وسؤال الوسيلة، وغير ذلك مما يعلم أنه حاصل له صلى الله عليه وآله وسلم بغير سؤالنا، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرشدنا إلى ذلك، لنكون بدعائنا له متعرضين للرحمة التي رتبها الله تعالى على ذلك.
فإن قلت: الفرق أيضا: أن غيره لا يخشى فيه محذور، وقبره صلى الله عليه وآله وسلم يخشى الافراط من تعظيمه أن يعبد؟!
قلت: هذا كلام تقشعر منه الجلود، ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته، فإن فيه تركا لما دلت عليه الأدلة الشرعية بالآراء الفاسدة الخيالية!
وكيف تقدم - على تخصيص قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (زوروا القبور) وعلى ترك قوله:
(من زار قبري وجبت له شفاعتي) وعلى مخالفة إجماع السلف والخلف - بمثل هذا الخيال الذي لم يشهد به كتاب ولا سنة؟!
بخلاف النهي عن اتخاذه مسجدا، وكون الصحابة احترزوا عن ذلك المعنى المذكور، لأن ذلك قد ورد النهي فيه.
وليس لنا نحن أن نشرع أحكاما من قبلنا: * (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) *.
فمن منع زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله! وقوله مردود عليه، ولو فتحنا باب هذا الخيال الفاسد لتركنا كثيرا من السنن، بل ومن الواجبات.
والقرآن كله، والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة، وسير الصحابة والتابعين، وجميع علماء المسلمين، والسلف الصالحين، على وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمبالغة في ذلك.
ومن تأمل القرآن العزيز، وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره والأدب معه، وما كانت الصحابة يعاملونه به من ذلك، امتلأ قلبه إيمانا، واحتقر هذا الخيال الفاسد، واستنكف أن يصغي إليه، والله تعالى هو الحافظ لدينه: * (ومن يهد الله فهو المهتدي) * و * (من يضلل فلا هادي له) *.
وعلماء المسلمين متكفلون بأن يبينوا للناس ما يجب من الأدب والتعظيم، والوقوف عند الحد الذي لا يجوز مجاوزته، بالأدلة الشرعية، وبذلك يحصل الأمن من عبادة غير الله تعالى.
ومن أراد الله ضلاله من أفراد الجهال، فلن يستطيع أحد هدايته.
فمن ترك شيئا من التعظيم المشروع لمنصب النبوة، زاعما بذلك الأدب مع الربوبية، فقد كذب على الله تعالى، وضيع ما أمر به في حق رسله.
كما أن من أفرط وجاوز الحد إلى جانب الربوبية فقد كذب على رسل الله، وضيع ما أمروا به في حق ربهم سبحانه وتعالى.
والعدل حفظ ما أمر الله به في الجانبين.
وليس في الزيارة المشروعة من التعظيم ما يفضي إلى محذور (1).

(1) وعند هذا الموضع، قد انقطع ابن عبد الهادي عن رده السخيف على الإمام السبكي، فصرم الله عمره وبتره بما أبداه على هذا الإمام الهمام من التعدي والظلم وقد ترك ما بقي من الكتاب، وهو القسم الأكبر والأهم ويحتوي على الأبواب الخمسة المتبقية من (الباب السادس) إلى (الباب العاشر) التي جاء فيها الإمام السبكي بالعجب العجاب من الكلام الحكيم القويم، والفقه الصائب، والحق الصراح.
وقد شرحنا جانبا من أسباب نكوص السلفي البغيض عن التعرض لهذه الأبواب في المقدمة، فراجع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[أقسام الزيارة] 

واعلم: أن زيارة القبور على أقسام:
القسم الأول: أن تكون لمجرد تذكر الموت والآخرة.
وهذا يكفي فيه رؤية القبور من غير معرفة بأصحابها، ولا قصد أمر آخر من الاستغفار لهم، ولا من التبرك بهم، ولا من أداء حقوقهم، وهو مستحب، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (زوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة).
وذلك لأن الإنسان إذا شاهد القبر تذكر الموت وما بعده، وفي ذلك عظة واعتبار.
وهذا المعنى ثابت في جميع القبور، ودلالة القبور على ذلك متساوية، كما أن المساجد - غير المساجد الثلاثة - متساوية لا يتعين شئ منها بالتعيين بالنسبة إلى هذا الغرض.
القسم الثاني: زيارتها للدعاء لأهلها، كما ثبت من زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل البقيع.
وهذا مستحب في حق كل ميت من المسلمين.
القسم الثالث: للتبرك بأهلها إذا كانوا من أهل الصلاح والخير.
وقد قال أبو محمد الشارمساحي المالكي: إن قصد الانتفاع بالميت بدعة، إلا في زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وقبور المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
وهذا الذي استثناه من قبور الأنبياء والمرسلين صحيح.
وأما حكمه في غيرهم بالبدعة ففيه نظر، ولا ضرورة بنا هنا إلى تحقيق الكلام فيه، لأن مقصودنا أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين للتبرك بهم مشروعة، وقد صرح به.
القسم الرابع: لأداء حقهم، فإن من كان له حق على الشخص، فينبغي له بره في حياته، وبعد موته، والزيارة من جملة البر، لما فيها من الاكرام، ويشبه أن تكون زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه من هذا القبيل، كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: (استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت) رواه مسلم (1).
ويدخل في هذا المعنى الزيارة رحمة للميت ورقة له وتأنيسا، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (آنس ما يكون الميت في قبره إذا زاره من كان يحبه في دار الدنيا).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا عرفه ورد عليه السلام).
ذكره جماعة، وقال القرطبي في (التذكرة): إن عبد الحق صححه، ورويناه في (الخلعيات) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضا.
والآثار في انتفاع الموتى بزيارة الأحياء، وما يصل إليهم منهم، وإدراكهم لذلك، لا تحصر.
[اجتماع الأغراض الشرعية في زيارة النبي خير البرية] إذا عرف هذا، فنقول: زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثبت فيها هذه المعاني الأربعة:
أما الأول: فظاهر.
وأما الثاني: فلأنا مأمورون بالدعاء له صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان هو غنيا بفضل الله عن دعائنا.
وأما الثالث والرابع: لأنه لا أحد من الخلق أعظم بركة منه، ولا أوجب حقا علينا منه، فالمعنى الذي في زيارة قبره لا يوجد في غيره، ولا يقوم غيره مقامه، كما

(1) صحيح مسلم (3 / 65) كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة قبر أمه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أن المسجد الحرام لا يقوم غيره مقامه، ومن هاهنا شرع قصده بخصوصه ويتعين، بخلاف غيره من القبور، هذا لو لم يرد في زيارته دليل خاص، فكيف وقد ورد في زيارته بخصوصه ما سبق من الأحاديث! وغيره لم يرد فيه إلا الأدلة العامة.
فزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم مستحبة بعينها، لما ثبت من الأدلة الخاصة، ولما فيها من المعاني العامة التي لا تجتمع في غيره.
وأما زيارة قبر غيره، فهي مستحبة بإطلاق.
وقد تقدمت النصوص الدالة على استحباب زيارة القبور، وحكاية الاجماع على ذلك، وأن من الناس من قال بوجوبها.
وفي كتاب (النوادر) لابن أبي زيد من (كتاب ابن حبيب): ولا بأس بزيارة القبور، والجلوس إليها، والسلام عليها عند المرور بها، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد قدم ابن عمر من سفر وقد مات أخوه عاصم، فذهب إلى قبره فدعا له واستغفر - وفي غير (كتاب ابن حبيب) -: ورثاه فقال:

فإن تك أحزان وفائض دمعة * جرين دما من داخل الجوف منقعا
 تجرعتها من عاصم واحتسيتها * فأعظم منها ما احتسى وتجرعا
 فليت المنايا كن خلفن عاصما * فعشنا جميعا أو ذهبن بنا معا
 دفعنا بك الأيام حتى إذا أتت * تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا 

قال ابن حبيب: وفعلته عائشة رضي الله عنها لما مات أخوها عبد الرحمان وهي غائبة، فلما قدمت أتت قبره، فدعت له واستغفرت.
قال: وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى البقيع يستغفر لهم.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلم على أهل القبور يقول: (السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم ارزقنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم).
والقول في ذلك واسع بقدر ما يحضر منه.
ويدل على التسليم على أهل القبور ما جاء من السنة في التسليم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر مقبورين.
وقد أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبور شهداء أحد، فسلم عليهم، ودعا لهم.
ومن (المجموعة) عن مالك: أنه سئل عن زيارة القبور؟
فقال: قد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنه، ثم أذن فيه، فلو فعله إنسان ولم يقل إلا خيرا، لم أر به بأسا، وليس من عمل الناس.
وروي عنه أنه كان يضعف زيارتها.
قال ابن القرظي: وإنما أذن في ذلك ليعتبر بها، إلا لقادم من سفر، وقد مات وليه في غيبته، فليدع له وليترحم عليه، ويؤتى قبور الشهداء بأحد، ويسلم عليهم، كما يسلم على قبره صلى الله عليه وآله وسلم وعلى ضجيعيه، انتهى كلام ابن أبي زيد في (النوادر).
وما وقع في كلام ابن حبيب من قوله: (ولا بأس) قد يوهم أنه مباح، ولكن ذلك لا ينافي كونه سنة، ولعل زيارة القبور عنده من قبيل عيادة المرضى ونحوها من القربات التي لم توضع بأصلها عبادة، على ما سيأتي عند الكلام في نذر الزيارة.
وإذا أريد هذا المعنى فلا يبعد الموافقة عليه، فإن زيارة الموتى كزيارة الأحياء، وزيارة الأحياء لا يقول: بأنها وضعت عبادة، بل تفعل على قصد التقرب تارة، فيثاب عليها، وعلى غير قصد التقرب تارة، فلا يثاب، وتكون إما مباحة، أو غير مباحة بحسب قصده، وهكذا زيارة القبور.
[جهة القربة في زيارة القبور] وجهة القربة فيها على أنواع:
منها: الاعتبار، وهو مستحب لكل أحد.
ومنها: الترحم والدعاء، وهو مؤكد لمن مات قريبه في غيبته، كما فعل ابن عمر حين قدم بعد موت أخيه عاصم، وكان ابن عمر إذا قدم وقد مات بعض ولده قال: دلوني على قبره، فيدلونه عليه، فينطلق فيقوم عليه، ويدعو له، رواه ابن أبي شيبة (1).
وكما فعلته عائشة حين مات أخوها عبد الرحمان، وكان قد مات بالحبشي - والحبشي على اثني عشر ميلا من مكة، هكذا في كتاب ابن أبي شيبة عن ابن جريج - فحمل حتى دفن بمكة، فقدمت عائشة من المدينة، فأتت قبره فوقفت عليه، فتمثلت بهذين البيتين:
وكنا كندماني جذيمة حقبة * من الدهر حتى قيل: لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا أما والله لو شهدتك ما زرتك، ولو شهدتك ما دفنتك إلا في مكانك الذي مت فيه (2).
وروى ابن سعد في (الطبقات) (3) بسنده إلى ابن أبي مليكة قال: رحت من منزلي وأنا أريد منزل عائشة، فتلقتني على حمار، فسألت بعض من كان معها.
قال: زارت قبر أخيها عبد الرحمان.

(1) المصنف لابن أبي شيبة (3 / 224) كتاب (9)، الجنائز، باب (145) ح 9.
(2) المصنف لابن أبي شيبة (نفس الموضع والباب) ح (8) باختلاف يسير.
(3) الطبقات الكبير لابن سعد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي (السير الكبير) (1) لمحمد بن الحسن تصنيف شمس الأئمة السرخسي الحنفي: أنها جاءت من المدينة حاجة أو معتمرة، فزارت قبره.
وقال في قولها: (لو شهدتك ما زرتك) إنما قالت ذلك لإظهار التأسف عليه حين مات في الغربة، ولإظهار عذرها في زيارته، فإن ظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله زوارات القبور) يمنع النساء من زيارة القبور.
قال: والحديث وإن كان متأولا، فلحشمة ظاهرة قالت ما قالت، انتهى.
ومقصودنا: أن زيارة ما عدا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يثاب الشخص على فعله، وقد يتأكد بحسب بعض الأحوال، فزيارة القريب آكد من غيره، وتطلب لمعنى فيه مختص به، وهو القرابة، وزيارة غير القريب أيضا مستحبة، للاعتبار والترحم والدعاء، وذلك عام في كل المسلمين، وسيأتي من نصوص المالكية في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم جملة أخرى في الباب السابع (2).
وإذا زار قبرا معينا، يكون مؤديا للسنة بما تضمنه من زيارة جنس القبور، ولا نقول: إن زيارة ذلك القبر المعين بخصوصه سنة، حتى يرد فيها فضل خاص، أو نعرف صلاحه، فإن زيارة جميع الصالحين قربة، كما يقولون: إن الصلاة في المسجد مطلوبة، ولا نقول: الصلاة في مسجد بعينه مطلوبة، إلا في الثلاثة التي شهد الشرع بها، ويقوم ما هو الأفضل منها، كالمسجد الحرام عن غيره.
وإذا ظهر لك تنظير زيارة القبور بإتيان المساجد، فمتى كان المقصود بالزيارة تذكر الموت، لا يشرع فيها قصد قبر بعينه، وإن صح عن أحد من العلماء أنه يمنع من شد الرحال إلى زيارة القبور - كما نقل عن ابن عقيل، وكما وقع في (شرح مسلم) - فليحمل على هذا القسم.

(1) السير الكبير (1 / 236) رقم 303 باب الشهيد ما يصنع به؟
(2) سيأتي في ص 231.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكذلك إذا كان المقصود التبرك ممن لا يقطع له بذلك، وإن كنا نستحب زيارة قبور الصالحين من حيث الجملة، ونرجو البركة بزيارتها أكثر مما يستحب زيارة مطلق القبور.
وأما من يقطع ببركته - كقبور الأنبياء، ومن شهد الشرع له بالجنة، كأبي بكر وعمر - فيستحب قصده.
ثم هم في ذلك على مراتب، أعظمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أن المساجد المشهود لها بالفضل على مراتب، أعظمها المسجد الحرام.
ولا تشد الرحال في هذا القسم إلى قبر أحد غير الأنبياء.
وإذا كان المقصود الدعاء من غير حق خاص لذلك الميت، فلا يتعين أيضا.
نعم، لو نذره لميت بعينه ممن يجوز الدعاء له، وجب الوفاء بالدعاء، لتعلق حقه به، ولا يقوم غيره مقامه، كما لو نذر الصدقة على فقير بعينه.
وفي وجوب الوفاء بالزيارة مع الدعاء - كما [لو] نذره - نظر، والأقرب وجوب الوفاء، لأن الدعاء عند القبور مقصود، كما في الدعاء لأهل البقيع، وحينئذ يجوز شد الرحل لأداء هذا الواجب بعد لزومه بالنذر، ولا يستحب شد الرحل لهذا الغرض قبل النذر، فإن الدعاء لذلك الميت بعينه عند قبره لم يطلبه الشارع، ولا تعلق به حق الميت.
وأما الزيارة لأداء الحق، كزيارة قبر الوالدين، فيظهر أن قصد ذلك بعينه مشروع، ويجوز، بل يستحب شد الرحال إليه، تأدية لهذا الحق.
وأعظم الحقوق حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيستحب شد الرحال إليه لذلك.
هذا لو لم يرد فيه دليل خاص، فكيف، وقد قام الاجماع على فعله خلفا عن سلف؟!
فإن قلت: ما قولكم فيمن نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هل ينعقد نذره ويلزمه ذلك، أم لا؟ فإن مقتضى قولكم باستحبابها أن يلزم بالنذر.
قلت: نعم، نقول بانعقاد نذره، ولزوم الزيارة به، وبه صرح القاضي ابن كج من أصحابنا، ولم نر لغيره من الأصحاب خلافه، وقد قدمنا في الباب الرابع عن العبدي المالكي لزومه، على أنه لا يلزم أن كل مستحب أو قربة يلزم بالنذر، فإن القربات نوعان:
أحدهما: قربة لم توضع لتكون عبادة، وإنما هي أعمال وأخلاق مستحسنة، رغب الشارع فيها لعموم فائدتها، وقد يبتغي فيها وجه الله تعالى فينال الثواب، كعيادة المرضى، وزيارة القادمين، وإفشاء السلام، وما أشبه ذلك.
فهذا النوع في لزومه بالنذر وجهان، أصحهما اللزوم، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) ومن هذا النوع تشييع الجنائز، وتشميت العاطس.
والنوع الثاني: في العبادات المقصودة، وهي التي وضعت للتقرب بها، وعرف من الشرع الاهتمام بتكليف الخلق بإيقاعها عبادة، كالصلاة، والصوم، والصدقة، والحج، فهذا النوع يلزم بالنذر بالإجماع إلا فيما يستثنى.
ومنهم من يعبر عن النوع الأول ب‍ (ما لم يوجبه الشرع ابتداء) وعن الثاني ب‍ (ما أوجبه) وأدرجوا الاعتكاف في النوع الثاني وإن كان لم يجب ابتداء، وقالوا:
الاعتكاف لبث في مكان مخصوص، ومن جنسه ما هو واجب شرعا، وهو الوقوف بعرفات.
وجعلوا من النوع الأول تجديد الوضوء، فإنه ليس في الشرع وضوء واجب بغير حدث، وليس الوضوء مقصودا لنفسه، بل للصلاة، والأصح لزوم تجديده بالنذر.
والمستثنى مما أجمع عليه صور:
منها: ما إذا أفرد صفة الواجب بالالزام، كتطويل القراءة، وإقامة الفرائض في جماعة، ففي لزومه بالنذر وجهان، أصحهما اللزوم.
ومنها: ما فيه إبطال رخصة شرعية، كنذر صوم رمضان في السفر، ففي لزومه وجهان، أصحهما المنع، وكذلك نذر المريض القيام بتكلف المشقة في الصلاة، ونذر صوم بشرط أن لا يفطر في المرض، فلا يلزم بالشرط، على الأصح.
وأجرى الرافعي الوجهين فيمن نذر القيام في النوافل، أو استيعاب الرأس بالمسح، أو التثليث في الوضوء، أو أن يسجد للتلاوة والشكر ونحو ذلك، وجعل نذر فعل السنة الراتبة - كالوتر، وسنة الفجر - على الوجهين فيما إذا أفردت الصفة بالنذر، والذي يتجه التسوية بين هذا وبين استيعاب الرأس بالمسح ونحوه.
وإذا نذر التيمم، لا ينعقد نذره على المذهب، لأنه إنما يؤتى به عند الضرورة.
ولو نذر الصلاة في موضع لزمه الصلاة قطعا، وهل يتعين ذلك الموضع؟
إن كان المسجد الحرام تعين، وإن كان مسجد المدينة تعين على الأصح هو أو المسجد الحرام، وإن كان المسجد الأقصى تعين على الأصح هو أو المسجدان، وإن كان ما سواها من المساجد والمواضع لم يتعين.
ولو نذر إتيان المسجد الحرام لزمه، إلا على وجه ضعيف.
ولو نذر إتيان مسجد المدينة والمسجد الأقصى، ففيه قولان للشافعي، أظهرهما عند الشافعية عدم اللزوم.
قال الشافعي في (الأم) : لأن البر بإتيان بيت الله فرض، والبر بإتيان هذين نافلة.
واستدلوا لهذا القول بما روى أبو داود في (سننه) (1) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رجلا قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله، إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في البيت المقدس ركعتين.
قال: (صل هاهنا). ثم أعاد. قال: (صل هاهنا). ثم أعاد عليه. فقال: (صل هاهنا). ثم أعاد عليه. فقال: (شأنك إذن).
وعن عمر بن عبد الرحمان بن عوف، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخبر، زاد، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي بعث محمدا بالحق، لو صليت هاهنا لأجزأ عنك صلاة في البيت المقدس).
واعلم: أن الصلاة في مكة تجزئ عن الصلاة في بيت المقدس - كما قدمناه - بلا خلاف.
وإن قلنا بتعينه، فقد يقال: إن الحديث محمول على ذلك، وإنه لا دلالة له فيه على المدعى من عدم لزوم الإتيان.
ووجه الدلالة: أن الصلاة في مكة تقوم مقام الصلاة في بيت المقدس، لأنهما جنس واحد، والصلاة بمكة أفضل، فالتضعيف الذي ألزمه في بيت المقدس يحصل له في مكة وزيادة، وأما المشي فأمر زائد على الصلاة، وهو عبادة أخرى، فلو لزم لما قامت الصلاة بمكة مقامه، فمن لزمه الصلاة ببيت المقدس من غير مشي - بأن كان وقت النذر ببيت المقدس - فلا شك أن الصلاة بمكة تجزيه.
ومن نذر المشي إلى بيت المقدس والصلاة فيه، فهما عبادتان، فإن قلنا بعدم لزوم إتيانه لم يبق عليه إلا الصلاة، فتجزيه الصلاة بمكة، وإن قلنا يجب إتيانه فيظهر أن الصلاة لا تقوم مقامه، ولو مشى إلى مكة - من مسافة - مثل المسافة التي بينه

(1) سنن أبي داود (2 / 102) باب (24) من نذر أن يصلي في بيت المقدس، ح (3305).
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبين بيت المقدس - أجزأه.
وصيغة الحديث، كما رويناه، لم يصرح فيه بإتيان بيت المقدس، فيحتمل أن يقال: إنما التزم الصلاة، فلذلك قامت الصلاة في مكة مقامها.
ويحتمل أن يقال: إن الناذر لما لم يكن في بيت المقدس، فهو بنذره للصلاة ملتزم إتيانه، بناء على أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وحينئذ يكون الإتيان ملتزما، لو صرح به، فلما أفتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة في مكة، دل على عدم لزوم الإتيان بالنذر، كما استدل به الشافعي والأصحاب.
وقد أطلنا في هذا الفصل أكثر مما يحتمله هذا المكان، وظهر لك منه أن القربات:
منها: ما يلزم بالنذر بلا خلاف.
ومنها: ما يلزم على الصحيح.
ومنها: ما لا يلزم على الصحيح.
وظهر لك مأخذ كل قسم منها، والصحيح عندنا أنه لا يشترط في المنذور أن يكون جنسه واجبا، وهو مذهب مالك، والوجه الثاني لأصحابنا اشتراطه، وينقل عن أبي حنيفة.
[زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قربة] إذا عرفت هذا، فزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قربة، لحث الشرع عليها، وترغيبه فيها، وقد قدمنا أن فيها جهتين: جهة عموم، وجهة خصوص:
فأما من جهة الخصوص وكون الأدلة الخاصة وردت فيها بعينها، فيظهر القطع بلزومها بالنذر، إلحاقا لها بالعبادات المقصودة التي لا يؤتى بها إلا على وجه العبادة، كالصلاة، والصدقة، والصوم، والاعتكاف.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق